بمناسبة
اليوم العالمي للأرض (31-3-2016م) أبعث رسالتي إلى العواصم التي ترارعت فيها...
إلى الوطن؛ تحمل في طيّاتها جوابا شافياً لرسائله المتتالية التي تبدو بأن
منطلقاتها ومنتهى سطورها نقطة واحدة هي عتابه الشديد على المغتربين ولوائمه
المثيرة التي لازالت تُرفع إليَّ بشرارة منذ لحظة الفراق فمابعدها، وتكون تارة أخرى
طريقة رشيقة لتسلية المواطن الجريح الذي لم يرقد بطمأنينة منذ ربع قرن فأكثر،
ولإشعاره بمشكلات الوطن التي أصبحت محفورة في طيّ النسيان، وأيضا تنبّه –بصورةغير
مباشر- بما يلزم فعله من المبادرات الفعلية التي تعيد الرخاء والأمن في ربوع الوطن.
تنصّ
إحدى رسائل الوطن التي وصلتني عند هدأت السحر وأثرت مشاعري حتى انقلبت الموازين
بعباراتها الحادّة التي كادت تدمع مقلتاي وتردعش جوارحي أمامها لصدقها، وتقول
الرسالة: "من الحبيب المتضرر... ابني ترارعت في حضني أعجفاً، وسقيتك من حوضي
زائغا، وتغذيت من بستاني أكتماً، حتى كبرت في عروقي ظافرا، وعلى الرغم من كل
مامنحتك من العطايا الثمينة لأجل أن تكون إنسانا له قيمة في الحياة، ورمزا من
معالمه الشهيرة إلا أن جزائي أصبح منسيّا!، وتيّقنت بأنه ليس في قواميسك
"كماتدين تدان" التي تكررها في خطابك مع الآخرين، ولاتمتّ للواقع بأيّ
صلة، فخذلتني يوم أن هاوت بي الرياح العاتية في مكان سحيق، ولم تستجب تنديداتي الملحة
وأنا في أشدّ الحوجة لمساعدتك؛ مماسهّل لأعدائي أن يجترؤو علي حرماتي وأن يمدّو لي
يد الإنتقام، فمزقوني بصورة لاأبوح لك، وأنت لازلت متنعما بترف العيش في أوطان
لعلها هي التي تدمرني وتحيق لي المكائد بين عشيّة وضحاها، وتفتخر بفقد هويّتي وأخذ
جنسيّتهم، فإلى متي ستفيق من الغيبوبة يا ولدي".
وطني...
دعني أسرد لك الحقائق –وإن جاء ردّي متأخراً-، وأكتشف لك مراميها التي لم تظهر لك
خفاياها بعد!، حقيقة هي بأن قدرك ومكانك في أعماقي عظيم لايتنازع فيه اثنان، حبّك
هي الغاية الوحيدة التي عجزت جوارحي –كلّها- عن إيضاحها للدواب أجمع، لاجرم أنك بذلت
كلّ مافي حوزتك؛ لتحقق لي طموحاتي، لتجبر كسري، لتجعلني ناجحا قويا يعبّر جسور
التحدّيات بلمح البصر، كنت الصديق الوحيد المانح الوفيّ الذي مرّ في حياتي، لم
أشعر بأيّ ملل حينما كنت أغذو إلى المدرسة لأسرد للحاضرين مدائحك الغزيرة، وكانت
بساتينك الجميلة -المنتهى فيها الجمال- وساحلك المبهر الذي قضيت فيه ريعانة طفولتي
مما تركت في نفسي آثارا لم تطمس بعد!، شوارعك الواسعة وأبنيتك الشاهقة المصطفة علي
جنباته المنسجمة مع جمال الطبيعة وروعتها، و نسمات الهواء المسائیة التي تدعوا إلى
التأمّل، كانت توحي إليّ شيئاً لم أعرف حقيقته بعد!.
على
الرغم من أنّ ندماتي كلّها تتعلق بـ (لحظة الفراق) إلّا أنّها كانت إجبارية على
والدي العزيز الذي كان –ولازال- يدير ملف حياتي، فكم أيقظته رصاصات (سفّاحيك) التي
لاترحم عند هدأت السحر؛ ليتنفس الصعداء وليهدأ رويدا رويدا حامدا بربّه؛ فقط بأنه
لازال –هو- وذريته على قيد الحياة!، وكم أفزعته الإنفجارات العشوائية التي لاتفرق
بين المستهدفين والأبرياء!، وكم أمنعته من الرقاد حينما يأتي أحد (سفاحيك) وهو
مربوط بحزام ناسف ليرسل ظنونه عنان السماء متوجها إلى مراتع الجنان التي لن يدخلها
إلّا بمحو أثر عباد الله في الوطن!، وكم ألجأ بربه حينما أتي إليهم (السفّاح) وبيده مسدّسة لعينة
لاترحم؛ ليقتل من رقّم اسمه في قائمة الموتى، وقد تتمّ عمليته بلا خفية وفي رابعة
النهار ولا أحد يستفسره لم قتله، فضلا من أن يقبضه أحد!.
وطني...
كلّ هذه الحوادث والجرائم الشنيعة مرّت في حارتنا ولازلنا نكبح جماحنا في جنبات
الشوارع؛ إيماناً بأنها ستزول على مرّ السنين وأنها تتطلب للصبر والثبات، ولكن
حينما تولى زعماء الحرب زمام الوطن وأصبحت جرائمهم منسية لاتذكر، لاسيما وحين قاموا
بأبشعها ومزقوك إلى دويلات متناحرة لاتسمن ولاتغني من جوع، وأصبح الحال (كالمستغيث
من الرمضاء بالنار) وجعلوا الوحدة المتوقعة شيئا لايتحقق بسهولة، أصبحت أحلامنا
خائبة ولم تكن سوى أضغاث أحلام، ففرت من (سفّاحيك) لمّا خفتهم وانضمت نفسي –مع
أهلي- في سلك المغتربين، صدقني... لاشيء يطيب للمواطن الذي أوجعته توائم المصيبة
سوى أن يلوذ بالفرار!، لطالما القتل والدمار وعدم محاسبة المجرم أمر قائم بين
عشيّة وضحاها، وخصوصا يوم أيقن المواطن الجريح بأن لوائح العدالة وموازينها
الثقيلة -التي لاتفرق بين القوي والضعيف- أصبحت معدومة!.
وطني... أما
نقطة (الخذلان) فليست في قائمة الخيارات المتاحة أن أقيم في مدنك وقراك، آلمتني
المضرّات التي آوتني -أخير- إلى أطلال الغربة من ضمن النازحين المتضررين آنذاك، وكان
لديّ –آنذاك- إيمان راسخ الذي أصبح فيما بعد هباء منثورا؛ ذلك بأن مسح هويتك
وذكرياتك المؤلمة تكفيني عن كلّ شيء، فصرت واحدا من الآلاف المؤلفة الذين طابت
نفوسهم بالتجنس وفقد الهوية، وعلى الرغم من كثرة محنك وشدائدك لاشيء يكفيني عنك ياوطني،
تجدني أتعب نفسي لأسرد المدائح والمحاسن التي عرفتها في ريعانة طفولتي، فعلام
تلومني ياوطني إذاً؟!.
أضف إلى القائمة
كنت متعدد الأسماء والصفات حينما كنت أجوب
في شوارعك الواسعة، واليوم وقد مرّت بي الأعوام ولم يفارقني (الإغتراب) كاسم ميثالي
آخر أبى إلّا أن يكون رمزا لحياتي الجديدة بعد أن فارقتك، وحكاية تشمل ما أعاني به،
لاغرو بهذه الويلات لطالما هي من عواقب الأمور!، وكما يقال "من ترك داره قلّ
مقداره"، لم أستطع أن أرسم خريطة جملية لإنجازاتي -ولو بشق الأنفس-، لا أحد يحسّ
بأن إنجازاتي قد تكون له شرف، ونفعها يعود إليه مع مرور السنين أو هكذا، كنتَ
الوحيد الذي كان يحرضني حينما تميل أحلامي إلى بر الخيبة، فأصبحت كالحنطل لايجود ثماره
الحميدة إلّا في حالات نادرة!.